خــواطر حزيــنة عــن الــفـراق
لكن العقل لا يتركنا وشأننا؛ فهو يرسل إيحاءاته من عوالم الماضي والمستقبل ليغري ويخيف. فكيف السبيل إلى التعامل معه؟ لا بالمقاومة، لأنها وقود آخر يعزز صراعاته، وإنما بتركه ينطلق بعيداً كصدى خافت خلف حواجز وعينا. ثم نعود مجددًا إلى اللحظة الراهنة، إلى تيار الحياة البسيط. مرة بعد مرة، نستمر بالعودة برفق وحنان، كما يحتضن الأم طفلها الصغير بلا تعجل ولا غضب.
على العشب الممدود تحت ظل شجرة صنوبر شامخة، ينقل النسيم عطر الخشب ورائحة الربيع العذبة. أصوات الطيور تتناغم مع أحد جدول الماء القريب وهمسه الرقيق. أرفع نظري نحو السماء فيدهشني جمال السحب وهي تأخذ طريقها بتؤدة كأنها أحلام غافية. في تلك اللحظة، أشعر بأنني مكتمل بلا زيادة أو نقصان، وكأن الكون كله متزن في نقطة واحدة لا تهتز.
لكن، هل يكتمل شيء فعلًا؟ تلك السكينة التي تظللني لا تلبث أن تتصدع تحت وطأة الذكريات، صغيرة كانت أو كبيرة. هكذا نمضي في حياتنا مثقلين بذكريات الأمس؛ أفراح ذهبت بلا عودة، وآلام تأبى أن تندمل تمامًا. وأكثر من ذلك، نظل مشدودين نحو المستقبل، نترقب منه بريق أمل أو نخشى ظلمته الغامضة. المستقبل يحمل في طياته الوعد والفقد، يلوّح لنا بالخاتمة الحتمية: الموت الذي لا مفر منه.
يا لهذه الحقيقة المُرّة التي كان يمكن أن تدفعنا للتمسك بالحاضر، لكنها في النهاية لا تزيدنا إلا ارتجافًا غائرًا وتشبثًا مبالغًا بما نملك. نركض وراء الأمل، لكنه أمل مشوب بالحزن، يتغذى على نقصٍ لا ينتهي ويقتات من حاجةٍ لا تشبع. وكل طرقاته تؤدي إلى هوّة القلق، ومع ذلك نستمر في الانتظار، كأننا نطارد سرابًا يبتعد كلما اقتربناه.
الفراق في الحب ليس نهاية مطلقة بل بداية لنسخة جديدة من ذواتنا. نصبح أكثر هشاشة، نعم، لكننا أيضًا نتعمق أكثر في فهم دواخلنا. نعرف أن القلوب عندما تنكسر لا تعود أبدًا كما كانت، لكنها تظل قادرة على الحب مجددًا، وربما بصدق أشد.
الفراق لا ينهي الحب بل يعيد تشكيله بطريقة مختلفة؛ يتحول من دفء القرب إلى ألم البُعد، من كلمات تتردد إلى صمت نغرسه في أعماقنا حيثما نذهب. نظن أننا سننسى يومًا، لكن الحقيقة أننا لا ننسى أبدًا؛ فقط نتعلم كيف نتعايش مع الغياب كما يتعايش الجرح مع الجسد بعد التئامه ظاهريًا، فيما يظل يلسعنا خفية.
في لحظات الفراق، ندرك أن الحب لم يكن مجرد لقاء أجساد أو أعين؛ كان نورًا يتسلل إلى أرواحنا ويبهجها، وها هو يغيب فجأة تاركًا خلفه غصة حزنٍ مستمرة. ومع الحزن الذي يخيّم كظل دائم، يبقى هناك شيء جميل غامض: أننا عرفنا الحب أصلًا، أننا ذقنا طعمه ولو للحظة، حتى لو انتهى بخيبة أمل.
الحب يجعلنا نؤمن بأبدية صغيرة تخصنا وحدنا، يجعلنا نصدق أن الأيدي التي غمرت قلوبنا لن تتخلى عنا، وأن الوجوه التي سكنت أذهاننا ستظل بجوارنا ما حيينا. لكن الفراق يعلّمنا أن تلك الأبدية وهمٌ جميل، وأن ما نمتلكه حقًا هو لحظات مولودة من الحب، لحظات قصيرة لكنها تغرس أثرًا طويلًا في أعماق القلب لا يُمحى.
يشبه الفراق غصنًا انكسر من شجرة بقيت خضراء. كل شيء حولك يبدو حيًا ومستمرًا، لكنك داخلك تشعر بفراغ هائل لا يملأه شيء. حين نفترق عمّن أحببنا، يصبح العالم أعمى عن انطفائنا الداخلي، الشمس تشرق كعادتها غير مكترثة بغياب نورنا، والرياح تهب بلا أن تسمع صوت أرواحنا المتكسرة في الخفاء.
لا يمكن إنكار حقيقة أن المشاعر الصادقة تشكّل نواة وجودنا الإنساني، فهي التي تمنح الحياة معانيها، وتلوّن أيامنا على اختلافها. هنالك لحظات من الفرح، تُشبه لمعان البرق في سماء معتمة، قد تضيء حياتنا بأكملها ولو لثوانٍ معدودة. وهنالك أيضًا أحزان تهزّ أعماقنا، لكنها تغرس فينا قوة جديدة للصمود والمضي قدمًا. المشاعر هي ما يجعلنا بشراً، لكنها تفقد قيمتها حين تتحول إلى عرض مفرط، وحينها تصبح عبئًا علينا ولربما سلاحًا نؤذي به أنفسنا ومن نحب.
لهذا، اخترتُ التمسك بالبساطة في كل شيء. إذا أخطأتْ يومًا، أجعل جهودي في المحاولة التالية أكثر جمالاً. وإذا جرحتُ أو جُرحتُ، يكون سعيي الدائم هو فهم كيفية الشفاء والمضي. المشاعر ليست طوق نجاة دائمًا. هي جميلة إذا عبرت بانسيابية كنسيم خفيف يلامسني ويمضي، لكنها تتحول إلى حِمل غامر إن سمحنا لها بالهيمنة.
بين حين وآخر أتيح لنفسي القليل من ترف العاطفة، تمامًا كما يضيف المرء لمسة من السكر لقهوة مرّة. أفتح نافذة صغيرة للحنين كي يعبر بلطف؛ أستمع إليه لبضعة لحظات وأتأمل ما مضى. أحنّ لما فات وأبتسم على ما لم يتحقق. ولكن سريعًا ما أعيد إغلاق تلك النافذة، لأن العاطفة حين تُسترسل تصبح عبئًا ثقيلًا، وحين تُفرط فيها تتحول إلى ضباب يغشي الحواس ويعتم الإدراك.
يستوقفني الخوف من أن تصبح المشاعر مجرد استعراض أمام الآخرين. دموع تبحث عن صدى تُفقدنا حقيقتها، ومظاهر الضحية التي يتباهى بها البعض تعيق روح الإنسان وتصنع سجونًا مشتركة. الجراح الحقيقية تلزم الصمت كمن يخفي سرًا ثمينًا، فهي تحمل حياءً لا يحبذ العرض ولا يبحث عن الانتباه. أما تلك التي تبرز كأعلام عالية فغالبًا ما تُخفي وراءها دوافع أخرى، وربما حتى خدعًا متخفية.
لقد ذقت مرارة الغرق في العواطف المُبالغ فيها ذات يوم، سعيت خلفها بتعطش كما يلاحق الظل السراب، ولم أخرج سوى بعطش أكبر وشعور أعظم بالخواء. لا أستطيع القطع بلحظة التحول التي غيرتني؛ ربما إنهاك الروح هو السبب أو تطور داخلي ينضج تلقائيًا. كل ما أعلمه الآن أنني لم أعد أتحمل الإسراف في الدراما أو الشكوى المستمرة.
المآسي الحقيقية عندما تأتي تغمرنا بصمتها الساحق. تفقدنا كل تعبير، وتجعل دمعتنا عزيزة وصعبة المنال، كما تفعل الكارثة التي تهبط كالصاعقة فتترك القلب محطماً كأرض بلا حياة. أما ما هو زائد ومفتعل، فهو مجرد زيف هش؛ جمالٌ ظاهري سرعان ما يتبدد مع نسيم الواقعية الأول.
لا يخلو قلب إنسان من أثر جرح سببه الفراق، ذلك الجرح الذي يترك بصمته العميقة في الروح. كل واحد منا مرّ بلحظة قاسية، لحظة فقد فيها شخصًا أحبه بشدة، شخصًا تقاسم معه الضحكات والأحزان، ليجد نفسه فجأة مجبرًا على متابعة الحياة بدونه. الفقد ليس مجرد غياب جسدي، بل عاصفة داخلية تهز الكيان وتترك النفس هائمة بين زوايا الذكريات تبحث عن ملجأ.
في أوقات كهذه، عندما يثقل الحزن كاهل القلب حتى يكاد يخنق الأنفاس، تبدو الكلمات عاجزة عن وصف هذا الشعور الهائل. كيف يمكن اختزال ألم الفقد في سطور قليلة؟ وكيف يمكن لحروف اللغة أن تعبر عن دمعة تذرف بصمت على الوجنتين؟ بالرغم من رحابة اللغة واتساعها، فإنها تبقى عاجزة عن ملامسة عمق هذا الألم الذي يمزقنا بصمت.
لكننا لا نملك سوى الكلمات ملاذًا ومتنفسًا للبوح ومحاولة التخفيف عن ما يختلج في قلوبنا. لذلك أشارككم بعض الخواطر المؤلمة عن الفراق، علها تكون صدى لما نشعر به بالفعل، ومسارًا يعيننا على حمل شيء من أثقال هذا القلب المثقل بالألم.
