خواطر حـــب طـويـلـة
في الحياة الكثير من الحب، حب يغمر الكون ويكفي الجميع. كل ما علينا فعله هو أن نفتح أعيننا لنراه، وقلوبنا لتذوقه. يا ليتك تعي مقدار الحب الذي تمنحه ومقدار الحب الذي يحيط بك. يا ليتك تعيش حلاوته كل يوم، لتدرك أن جوهر الحياة ليس سوى حب متجدد، ونور يتسع، وعناق أبدي بينك وبين هذا العالم.
الوحدة حين تستوطننا، تسرق العمر بصمتٍ قاتل؛ تقرّبنا من الشيخوخة، تفتح أبواب العلل، وتثقل خطواتنا على دروب الحياة. لهذا، من المهم أن نمنح الحب مكانته المستحقة، وأن نحميه كما نحمي أعز ما نملك؛ بالعناية بمن نحب وبأن نكون قوتهم كما يكونون قوتنا.
وعندما نلامس نهاية الطريق، نفهم أن الحب ليس مجرد عاطفة عابرة أو أفكار طويلة عنه، بل شجاعة لمنح ذاتنا للآخر دون ضمانات مسبقة. إنه حفظ كرامتنا دون قسوة تغلق أبواب قلوبنا. إنه معركتنا ضد الفراغ الداخلي، وهدية تمنحنا القدرة على تذوق الجمال الإنساني. ويبقى الحب شابًا في جوهره، يفتح أمامنا دروبًا جديدة للتجربة والتطور. هذه التأملات ليست إلا امتدادًا للسؤال الإنساني العميق: كيف نعيش بقلوب ممتلئة، أرواح مشرقة، وشجاعة كي نحب مجددًا؟
الحب يسكن التفاصيل اليومية: في ابتسامة خاطفة، في لمسة تزيل وجعًا، في دفء المنازل المعتادة، في لقاء عابر بمقهى، أو حتى في زحمة الطريق. إنه في قوانين العيش المشترك واحترامها، في تعليم الآخرين بالقدوة من خلال تصرفاتنا وكيفية شغلنا للأماكن.
لقد حملت معك كل شيء، حتى الأشياء التي لم أدرك يومًا أنها قابلة للرحيل: ضحكتي، فرحتي، قلبي وروحي. لم تترك لي سوى جسد فارغ لا يعرف كيف يواصل السير.
لم أعد أراك، ولم يعد وجهك يتراءى لي في الطرقات أو بين الوجوه. ولكن ظلك لا يزال يتسلل بخفاء؛ يختبئ في طيات ذاكرتي. أريد أن أتعلم كيف لا أشعر بك بعد الآن؛ ألّا يمزقني غيابك في لحظات الصمت. أريد أن أتعلم كيف أبدد هذا الحنين الذي يأكلني كلما عبرت ذكراك داخلي.
أنا لا أؤمن بفكرة القدر العمياء، بل أؤمن أننا نصوغ حكاياتنا بأنفسنا، عبر تلك التأملات العميقة عن الحب. لكنني أؤمن أيضًا بأن هناك لحظات خاصة تختارنا، دون أن نكون نحن من يختارها. ربما كانت لحظة لقائي بها هي تلك اللحظة التي اختارتني. لهذا السبب، أخشى أن أفقدها فجأة كما يضيع الحلم عند الاستيقاظ. أريدها أن تكون القلم الذي أخطّ به أسعد فصول حياتي، وأن تصبح النصف الذي طالما سكن صمتي وأبحث عنه بصمت. سأبقى دائمًا بجوارها، أضحكها بجنوني، وأثير فضولها بخفة ظلي، فقط لأنني أحب أن أراها حاضرة بكل مشاعرها، كما أحب أن أبقى جزءًا من نبض أيامها.
في كل تجارب الحب التي عشتها في الماضي، لطالما كنت مترددًا، أتساءل إن كان يستحق الأمر أن أخاطر. أما الآن، فأجدني ألقيت بنفسي وسط التيار، أعتمد فقط على رجاء بأن النهاية لن تكون هاوية عميقة. لم أعرفها منذ مدة طويلة، لكن ما أعرفه هو رغبتي في كشف كل تفاصيلها: طفولتها وأحلامها التي رسمتها في البدايات، هواياتها التي مارستها وحدها، الذكريات التي أفرحتها وتلك التي كسرت قلبها. أشعر برغبة عارمة أن أكون شاهدًا على كل تلك اللحظات، أن أقرأها كمن يقرأ كتابًا شديد الألفة. أطمح لأن أكتب لها خواطري الصادقة عن الحب. قد تكون مشاعري تجاهها أكبر من مشاعرها نحوي، وربما هي مختلفة… لكن ما أنا متأكد منه أنها أدخلت السعادة إلى قلبي بأسلوب لم أعهد له مثيلًا من قبل، وأن وجودها أصبح بمثابة نسمة حياة لا يمكنني الاستغناء عنها.
دخلت حياتي كما لو أنها محض صدفة، لكنني لا أؤمن بالصدف العابرة. لكل لقاء سبب يتجاوز الزمن والظروف. اقتربت خطوة بخطوة، لتصبح أكثر من مجرد صديقة أو حديث عابر. بات غيابها ألمًا حقيقيًا، وحضورها شفاءً لكل ما توارى في الروح من وجع. لقد أثبتت لي أن قلبي لا يزال حيًا وينبض بصدق. أشعر وكأنني طائر وجد نفسه محبوسًا في قفص طوال عمره؛ خائفًا من تجربة الطيران. لكنها جاءت لتفتح أبواب السماء أمامي. وفوق ذلك، لم تكتف بهذا فقط؛ بل داوت جراحي ووهبتني جناحين آخرين. ومع ذلك، لا أستطيع الطيران بعيدًا عنها؛ فبدون وجودها إلى جانبي، تفقد كل السماء قيمتها.
لكن الحقيقة أن بعضًا منا يحمل أثقال الجراح القديمة وخيبة خذلان ماضية. تلك الجروح تصنع حاجزًا يجعل البعض يتردد أمام فكرة الحب، ليس لأنه بعيد عنهم بل لأنهم لم يعودوا يملكون قوة حمله مجددًا. وهذه هي المأساة الحقيقية: أن تنغلق أبواب الحب ليس خوفًا من الاقتراب من الموت، بل خوفًا من مواجهة الحياة.
الحب هو اللغز الأبدي الذي يلاحقنا بلا انقطاع، الجرح العميق الذي يترك أثرًا عذبًا كآلامه. في محضره نصبح غرباء عن أنفسنا، نتحرر من الأنانية لنكتشف جانبًا جديدًا في أرواحنا يوقظ الدهشة والرعشة معًا. هو تجربة تتحدى الحدود والكلمات، أقرب للأفكار والخواطر مما يمكن تأطيره بمفهوم أو نظرية. مع كل نبضة قلب وكل لحظة انتظار، ومع كل انكسار وشفاء جديدين يولد مقال جديد للحب ليضيف إلى معناه ويستبدل بعض أحداثه.
الحب طاقة لا تنضب داخل الجسم والروح، تمنحك الحياة اليومية وتعيدك نحو العطاء. يأتيك كنسمة دافئة تحيطك، يشعرك بالأمان وكأنك طفل يجد السكينة في حضن موثوق. ومن ثم يتوغل لداخلك مجددًا ليصبح نهرًا من المحبة الجارية يتدفق بلا نهاية.
ما أشعر به تجاهك يتجاوز حدود الكلمات وحتى أعمق الخواطر التي تُكتب عن الحب. هو شعور يتحدى الأسماء البشرية، حب يفوق اتساع هذا العالم، ينمو بداخلي ليصبح كونًا موازيًا، أكبر من الأرض وأرحب من السماء. اشتياقي إليك ليس له حدود، إحساس يكبر في صدري كجمرة لا تخمد، يجعلني أفتقدك في كل لحظة وكأن الاشتياق ذاته هو الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها التنفس.
حاولت نسيانك مرارًا وتكرارًا، أقنعت نفسي بأن الماضي مجرد شبح والذكريات يمكن طمسها. لكن كيف لي أن أغفل لحظة كنتَ خلالها عالمي بكل تفاصيله؟ كيف أنسى ذلك الشعور بالأمان الذي أحاطني بوجودك؟ أو اكتمال حياتي بك والسعادة البسيطة التي كنتَ أنت مصدرها وشعاعها؟
أعرف الآن أنني لم أعد أرغب بوجودك اليومي في حياتي، وأدرك أن الوقت قد حان لأمضي قدمًا، ولأحرر نفسي من القيد الذي كنت تمثله. ولكن، في أعماقي ما زلت أحتفظ بك جزءًا من ذكرياتي، لستَ حاضرًا معي، بل هناك بعيدًا في لحظاتٍ محفورة داخل زمن لا يُمحى، في صور تبتسم خلسة من بين رماد أيام مضت.
أعلم أن حبك لي قد تلاشى، كما أعلم أن قلبي لم يعد ينبض لك بنفس الشغف الذي كان يومًا. ومع ذلك، أجد نفسي متمسكة بوهم ما، بحنين لا يندثر. أحاول أن أقنع نفسي بأنني تجاوزتك، بينما الحقيقة أنك ما زلت حاضرًا في تفاصيل صغيرة، في صدى أغنية قديمة، وفي كل كلمة حب نسجتْها أيامنا. أنت هناك، دائم في تلك الألحان والخواطر التي لم ينطفئ وهجها.
الحياة بدونك بدت كالمشهد المطموس؛ ألوان باهتة وأصوات بعيدة يصعب الوصول إليها. ومع كل لحظة يتلاشى فيها الغضب القديم داخلي، أعيد اكتشاف الحب كينبوع نقي يأبى الجفاف. أحبك من جديد؛ بل وأكثر مما كنت أفعل من قبل. كأن غيابك علّمني كيف يكون الشعور بالحضور أكثر كثافة وأعمق أثرًا.
في جوهره، الحب اختبار للشجاعة: شجاعة العطاء دون انتظار المقابل، والمخاطرة بالقلب كما لو كان قاربًا يُلقى في بحر لا يعرف الزورق فيه السباحة. الحب يعني الإيمان والطموح وحتى الجنون. هو الوقوف على حافة انتظار مفتوحة: انتظار اللقاء وانتظار الأمل. تصديق أن المخاطر تحتمل والمعجزات ممكنة. ربما الحب هو التجاور بين الخطر والمعجزة ذاتها، بين الألم والبداية الجديدة.
وبرغم ذلك، يلازمني ذلك الشعور المؤلم بالخديعة؛ بأنني أحببت من لم يدرك قيمته، من لم يشعر بعمق الضوء الذي منحته له. أقف أمام نفسي حائرًا، أسأل: هل أستحق كل هذا الوجع؟ أم أن قدري أن أذوب في مشاعر لا أملك السيطرة عليها، أن أحيا في لهيب اخترت البقاء فيه بملء إرادتي؟
لم يعد لي أي رغبة سوى أن أنساك، أن أدفنك عميقًا في داخلي حتى يتلاشى أي أثر لاسمك، حتى لا يعود لصوتك أي صدى في كياني. أريد أن أنتزع وجودك من أعماقي قبل أن يتحول إلى قوة تدمرني. أرغب في محوك من قلبي كما يُمسح الحبر عن الورق، حتى وإن خلف ذلك ندبة لا تختفي.
قد يخالجني الخوف… لكنه لم يعد حاكمًا مطلقًا. هذا الغليان العاطفي علّمني الشجاعة، أرشدني إلى ميادين المواجهة وجعلني أرفع الصوت قائلًا: لن أهرب، لن أدع هذه الفرصة تفلت من بين يدي. وإذا استلزم الأمر أن أقطع العالم لأبقى معها، فلن أتردد، لأن خسارتها ليست خيارًا مطروحًا، ولأن القطار الذي طالما انتظرته قد وصل أخيرًا… ولن أسمح له أن يمضي بدوني.
هل الحب يتطلب إذنًا؟
مشاعري نحوها مختلفة تمامًا عن أي شيء عرفته من قبل. حبٌ يتجاوز حدود المنطق ولا أجد له تفسيرًا سوى يقيني بصدقه. سيردد الكثيرون أن الوقت لا يزال مبكرًا، لكن منذ متى يحتكم القلب لمثل هذه القواعد الجامدة؟ الحب حين ينبعث، لا ينتظر العلامات أو الموافقات. إنه ينطلق بلا قيود نحو النور. حتى العقل، الذي لطالما كان مرشدي وحُكمي الواعي، وجد نفسه هذه المرة على وفاق مع القلب. كلاهما يهمس لي: اتبع طريقك بروية، لكنك حتمًا تسير في الاتجاه الصحيح.
لم تكن غائبًا
أنت لم تغب عني يومًا. كنت دائمًا وما زلت تسكنني كظل لا يعترف بالغياب، كصدى يتردد في أعماقي كلما حاولت أن ألتزم الصمت. مر الزمن وتعاقبت الفصول على نافذتي، لكن أثرك بقي ثابتًا كنجمة لا تنطفئ في السماء. وفي كل مرة أقنع نفسي أنك رحلت حقًا، أكتشف أن جذورك ما زالت متشبثة بداخلي. جذور لم أرغب بانتزاعها، ولم أمتلك الشجاعة لفعل ذلك حتى لو أردت.
ذلك الحب العميق
الحب الحقيقي ليس وعدًا دائمًا بالفرح، بل هو اختبار لجوهر الروح. وهكذا، أجد نفسي أغرق أكثر في الأحزان عوضًا عن التنعم بالسعادة التي توقعتها. ولأن هذا الحب العميق الذي يسيطر على كياني لم يجد صدًى في قلبك، أشعر وكأن الحياة تنساب من بين أصابعي، وكأن ذلك الأمان الذي اختبرته معك قد تبدد إلى الأبد.
الحب يحيط بنا في كل أرجاء الحياة، فهو ليس مجرد علاقة عاطفية تربط بين شخصين، ولا يقتصر على الأزواج أو العاشقين. إنه ينبع من أعماقنا ويتدفق نحونا من الآخرين أيضًا. الحب الرومانسي هو جانب واحد فقط، لكنه ليس الوجه الوحيد ولا الأعلى قيمة في هذه المشاعر المتعددة. جميعنا بحاجة إلى جرعات من الحب، ولا أحد بمفرده يمكنه أن يملأ هذا الاحتياج تمامًا. لذا كانت العائلة والأصدقاء والشركاء رحلة ننسجها معًا لتشكل شبكة دعم ورعاية متبادلة.
في أعماق قلبي، هناك مساحة لم يسكنها سواك؛ مساحة يحيطها أمل هادئ، حلم يراودني كل ليلة: أن نجد طريق العودة معًا، أن تتشابك مساراتنا مجددًا، وأن يعيدنا الزمن إلى النقطة التي ضاعت فيها خطواتنا عن بعضها. ومع مرور الأيام، لا يخبو هذا الأمل، بل يتجدد وكأن قلبي يبني لك موطناً جديداً مع كل نبضة فيه.
أحاول أن أزيل من ذاكرتي تلك الأعذار الهزيلة التي اخترعتها كي أتجاوز وجودك، لكني أواجه حقيقة لا مهرب منها: لم أبحث يومًا عن النسيان. أبحث فقط عن مبرر صغير يدفعني لأن أقول لك: عُد. عُد كما لو أنك لم تغب، كأنك كنت دائمًا هنا، في قلبي حيث الغياب لم يعرف أن يطغى على حضورك.
ينتابني شعور بالعجز والارتباك، ولحظات من الندم، لأنني لا أتمكن من السيطرة على تلك المشاعر العميقة والعنيفة التي تجتاحني حين تقع عيناي عليك. قلبي يخفق كأنه طير وجد سماءه بعد طول انتظار، وكأن كل محاولاتي للهروب منك كانت عبثية.
خيالك يرافقني في كل لحظة كظل لا يفارقني؛ يربت على كتفي في النهار ويطوّقني بألم حضوره ليلاً. إنه حضورك الموجع، حضورك الغائب الذي لا يمنحني فرصة لالتقاط أنفاسي أو الهروب من وطأته.
وعندما أدرت بصري نحو أعماقي، واجهت الحقيقة التي طالما حاولت الهروب منها: فراقك أمر مستحيل. لأنك لست فقط جزءًا من حياتي؛ لقد أصبحت حياتي بأكملها. من دونك لا أتنفس، وكأنني قطرة ماء تجف في وسط صحراء شاسعة. من دونك، أنا لا شيء.
أنت جسدي وروحي وكياني، أنت ذلك الامتداد الذي يعطي لنبضي معناه، وأنت السرّ الذي يجذبني للاستمرار. أحبك حبًا يتخطى حدود الحياة ذاتها؛ حبًا لا يفنى ولا ينتهي عند حدود الزمان والمكان. أحبك للحياة… وما بعدها.
بغض النظر عما إذا كان لديك شريك أم لا، يظل الحب قوة خفية تدفع العالم إلى الأمام. إنه طاقة لا تنضب، ينبع باستمرار، نقي وخالد كالأرض، مفعم بالحياة كالماء. الحب هو طاقة دائمة، تستمد وجودها من ذاتها وتعيد إحياء نفسها بشكل مستمر.
